السبت، 10 يونيو 2017

قوسها الملعون




حظها العاثر 
وجه سهام قوسها إليها 
وأطلقهم نحوها بيديها
فكانت هي القاتل والضحية


بيد مرتعشة وخطوات ملؤها الخوف والارتباك فتحت باب شقتها ودخلت مغلقة الباب من خلفها وكأن شبحا كان يطاردها ، كان الشبح داخلها لذا لم يفلح دورانها حول نفسها في شوارع المدينة من إنقاذها من ذلك الشبح ، نبضات قلبها تتسارع وهي لا تدري كيف تهرب منها ، قررت أن تمنح نفسها بضع لحظات من الهدوء وأن تحاول السيطرة على ذلك الشبح بداخلها ، يجب أن تكون قوية بما يكفي لتخوض المعركة القادمة .

كان يوما طويلا ، مفاجئا ، مرهقا ، مخيفا ، خيّل إليها أن الزمن توقف عندها أو هكذا تمنت ..

تحركت في مدخل البيت وكان ممرا طويلا نوعا ما وعلى أحد جوانبه تقبع مرآة طويلة وعلى الجانب المقابل شماعة علّقت عليها بعض من ربطات عنقه التي كان يتركها في مدخل البيت وسترة وقميص ورداء يستقبل به زواره .

نظرت إلى المرآة لتراه فجأة يحتضنها من الخلف ويقبلها في رقبتها ويهمس في أذنها ( انتي حب حياتي ) .

رائحته تكاد تصيبها بالغثيان ، استدارت فجأة حاملة كل ملابسه المعلقة على الشماعة وخلعت حذائها متجهة إلى الحمام لتلقي بكل ما في يدها في الغسالة وتغرقها بالماء ومسحوق الغسيل كي تتخلص من عطر جلده الذي طالما عشقته طوال حياتها معه إلى درجة السُّكر .

كم هي مرهقة وخائفة وتعيسة ، خلعت ثيابها ووقفت تحت أمطار حمامها الساخن جدا حتى انتهت وخرجت من حوض الحمام لتقف أمام مرآة الحمام ، لكنه مازال يلاحقها في كل المرايا ، وكعادته احتضنها من الخلف ممسكا بكلتا يديها كي لا تتحرك ، نظرت إلى أدوات حلاقته فابتسمت قائلة له :

- هتسيبني ولا أحلق لك دقنك ؟

هو ضاحكا

- هتحلقيها ازاي وانا ماسكك كده ؟ 

فحركت إحدى يديها وقرصته في فخذه حتى تركها مرغما وهو يكاد يموت ضحكا منها .

- بلاش تعند معايا عشان أنا ست عنيدة وشرانية ، وفي لحظات ملأت وجهه بصابون الحلاقة وخرجت من الحمام فأخذ يركض خلفها حتى سقطت على ظهرها ، نظرت حولها فلم تجده ، فعرفت انه لم يكن هنا ولو كان لما تركها تسقط هكذا ، استندت على التمثال الذي بجانبها ووقفت محاولة أن تستجمع قواها وأن تهدئ من روعها ، تباً .. أليس هناك من طريقة لإيقاف هذا القلب عن الهرولة خلفها كالشبح ؟ لم تجد إجابة لسؤالها سوى أن تحاول التنفس بعمق ، أيقظها من غفلتها تيار هواء بارد جعلها ترتجف فتذكرت انها خرجت من الحمام عارية ، نظرت حولها فوجدت جلبابه الصعيدية ملقىً على أريكته الزرقاء التي يضعها بعيدا عن صالون البيت 

لم ترغب بارتدائها لكنها فوجئت به يمسك بالجلباب ويلبسها إياه قائلا لها :

- تعرفي أن أنوثة الست بتظهر اوي لما بتلبس لبس رجالي ؟ وانتي أجمل أنثى في الدنيا 

هي مبتسمة :

- أنت مجنون وربنا 

تركته ودخلت المطبخ لتصنع لها فنجان فهوة علّه يزيح عنها هذا الصداع الهائل وكأنه بركان أنفجر فجأة في رأسها ، فوجدته يغلي الماء بالكاتل الكهربائي فقالت له : 

- أنت تاني ؟ قلتلك ما بحبش القهوة الكشري 

- حبيبتي انتي هتشربي القهوة اللي انا هعملها .. وبس 

أخذت الكنكة وأشعلت موقدها وبدأت بصنع قهوتها المفضلة ، لكنه احتضنها كعادته وامسك بيدها قائلا ( مش هسيبك تعملي القهوة هتشربي القهوة بتاعتي ) 

- عشان خاطري سيبني القهوة كده هتحرقنا 

- لا ، وظل يشاكسها حتى أفاقت من غفلتها مرة أخرى على قدميها الحافيتين وقد حولتهما القهوة المغلية إلى قطعتان من الجلد المحروق ، التفت مرة أخرى فلم تجده ، تباً .. هل سيلاحقها هكذا بقية عمرها ؟ 

أسرعت إلى الحمام مجددا لتبرد حروقها وتضع عليها مرهما علّها تهدأ لكنها وجدته ينتظرها في المرآة ليقول لها :

- عارفة المراية اللي مافيهاش صورتك لازم تتكسر أو تدهن بدهان أسود ، لمعت الفكرة في رأسها فحاولت الإسراع بقدميها الموجوعتين إلى مرسمه الصغير في البيت ، فوجدته مازال يرسم صورتها الأخيرة فعيد ميلادها قادم وصورها التي ملأت البيت هي هداياه في كل عيد لها أو له أو لهما معا ، لم تتكلم وحملت ما استطاعت حمله من الدهان الأسود لتغرق به كل مرايا البيت ، لكنها توقفت عند مرآة كبيرة كانت مميزة ، لقد رسم عليها صورتها وكتب تحت الصورة في المرآة ( هذه امرأة تستحق أن نملأ بصورها كل ميادين العالم ) . 

هنا أجهشت بالبكاء ، ولم تستطع أن تكمل عملها ، نظرت حولها ليس هناك حائط واحد يخلو من صورة لها ، وأركان البيت ملأى بتماثيلها ، حتى الطاولة الصغيرة القديمة التي كانت شاهدا على فقرهما يوما ما رسم عليها صورتها ، حتى غرفة الأطفال التي أصبحت غرفة خاصة لقطة وهرّ أستبدلت بهما أمومتها الضائعة ، حتى هذه وضعت بها صورتها مرسومة مع طفلين محظوظين لأنهما ظلّا حبيسين خياله وخيالها فقط .

نظرت حولها فلم تجد سواها في المكان ، وعلى الحائط الكبير في الصالة أكبر صورة لها قد رسمت بطريقة غريبة مع برج القوس على ساعة جدارية كبيرة ، وكانت عقارب الساعة هي القوس ذاته ، شعرت أن قوسها الملعون يترقبها لحظة لحظة ، يتجه بالقوس إلى قلبها لا إلى الأرقام التي أخذت تصطف وراء بعضها في حركة دائرية لا نهائية ، إنه ينتظر اللحظة التي يتجه فيها إلى قلبها ليقتلها ، أخذت نفسها عميقا وقررت أن تهدأ ، فلا جدوى من كل هذا الارتباك ، إنها ضائعة وعليها أن تجد نفسها كي لا يقتلها الإنتظار وعقارب الساعة بهذا القوس الملعون .

شغّلت موسيقاها الهادئة وأطفات الأنوار وأشعلت سيجارة وجلست على كرسيها الهزاز ، بدأت تهدأ ، أجبرت شفتاها على تصنع ابتسامة ساخرة من كل شيء حتى تأكدت من أنها أصبحت حقيقة ، بدأت تبتسم فعلا ودقات قلبها بدأت تميل إلى الثبات على نغمة واحدة ، كل شيء أصبح ساكنا تماما إلا موسيقاها الهادئة ونور سيجارتها الثالثة وحركة هادئة من كرسيها الهزاز . كل شيء أصبح كما تريد أن يكون ، هادئا وناعما وربما ميتا أيضا .

دق جرس الباب ، لم ترغب بفتحه لكنه أصر على أن تقوم من هدوئها لتفتحه ، ضابط الشرطة يدنو منها ويسأل عن منى :

- جالنا بلاغ يقول ان منى صاحبتك مفقودة وانك كنتي آخر شخص شافها ممكن ندخل ؟

- طبعا اتفضل 

- امتى شفتيها آخر مرة ؟

- النهارده الصبح 

- فين ؟

- هتلاقيها جوة في أوضة النوم 

دخل الضابط ليجد مسدساً ملقىً في الأرض وجثتين هامدتين غارقتين في بحر من الدماء على سرير كُتب على طرفه الأعلى ( حبيبتي الوحيدة تسكن هنا ) .

أما هي فقد أكملت جلستها على كرسيها الهزاز وسيجارتها الثالثة ، وموسيقى بتهوفن تصدح في كل مكان ..

هدأت ونامت .


تمت
نشرت هذه القصة في مجلة عالم الكتاب عدد مايو2017 

الجمعة، 9 يونيو 2017

حربٌ جديدة



8- 8 – 1988 يوم الأيام 

ليس هذا وقت الدموع ، إنه وقت حمل الأمانة وتسليمها لأهلها ، 8 سنوات مرت عشتها مع ثائر الأخ والصديق والأهل بعد أن قضت الحرب على آخر فرد من عائلتي في "مندلي" وهجرها من بقي من أهلها إلى أصقاع البلاد، فصرتُ وحيداً إلا من ألمي والفراغ، نعم أنا المهجور الذي هاجر مدينة الخراب إلى أرض المعركة لا أدري هل كنت أبحث عن وطني هناك ؟ أم كنت أبحث عمّن يرسل بي إلى أهلي الذين قتلتهم نيران العدو ؟ أم تراني كنت أبحث عن انتقام شرعي ممن جعلني هكذا؟ 
وجدت ثائر الذي أحمله بين يدي اليوم وقد غسلته دماءٌ لم تلوثها جحيم المعركة ، كان قلباً كبيراً يسع العالم كله ، و كنت واحداً من هذا العالم في قلبه ، أنقذني من الموت ست مرات ، وكلما عاتبته قال لي " إن لم يكن لك أهل يحزنون عليك فأنا أهلك وسأحزن عليك " أذكره كلما نزل في أجازة إلى أهله أوصاني بنفسي قائلاً " لا تَمُت في غيابي فأنا وكل العراق أهلك وسيحزننا غيابك ، كن شاهداً على انتصارنا لا شهيداً يفارقنا ، سأعود بعد أيام قلائل وسنحتفل بانتصارنا معاً أنا وأنت وكل العراقيين ، وبعد انتصارنا ستعود معي إلى أهلي وأهلك في بغداد ولن تكون وحيداً بعد الآن " .. آه يا ثائر لقد وفيتُ لك بوعدي فأين وعدك ؟ ها أنا اليوم أحملك بين ذراعي وأسير في طرقات بغداد التي تكتظ بالشعب العراقي، يبدو أنه لم يبق أحدٌ في بيته اليوم ، إنهم يحتفلون بانتصارنا وبشهادتك أيها البطل ، هاهم يحملون معي نعشك على الرؤوس ويربتون على كتفي ويهنئوني بالانتصار العظيم ، والأغاني والأهازيج العراقية وبيان البيانات يصدح من كل مكان بصوت مقداد مراد، من المقاهي والمحلات والسيارات والبيوت :
" أيها الشعب العراقي العظيم يا أبناء أمتنا العربية المجيدة ، أيها الرجال النشامى في قواتنا المسلحة الباسلة ، إنه يومكم اليوم ، إنه يوم الأيام وهو في ذات الوقت بيان كل البيانات ، في هذا اليوم صدر إعلان وقف إطلاق النار ، وقد حدد يوم الوقف الرسمي لإطلاق النار في العشرين من آب عام 1988 " 
ها أنا اليوم أسير ومعي الشعب العراقي كله نزفّك إلى أهلك وإلى مثواك الأخير وقد اختلطت علينا دموع الفرح والحزن معاً ، ها قد وصلنا يا ثائر إلى بيتك وها هي أمك الثكلى تستقبلنا بالزغاريد والدموع معاً ، وها هي زوجتك وأولادك حيارى بين البكاء والفرح وأنا أقف حائراً بما عليّ قوله لهم !! أأُهنئهم بانتصارنا وشهادتك أم أعزّيهم لفراقك ؟ ماذا عليّ أن أقول لهم وأنا لا أدري ماذا أقول لنفسي ؟ 
مررتُ على رجل أخرق الثياب عند عودتنا من مثواك الأخير، كان حزيناً ويبدو عليه الغضب من فرح العراقيين بانتهاء الحرب ، يقولون إنه رجل مجنون ، حملني الفضول لا أعرف ما الذي يغضبه من انتهاء الحرب !!
اقتربتُ منه كي أسأله فبادرني هو بالقول " أنت جندي عائد من الحرب ، ثيابك تقول هذا ، تحتفلون بانتهاء الحرب ولا تدرون أنها قد بدأت اليوم ، الحرب.. الحرب يا مجانين بدأت اليوم ، الحرب التي ستحرق الأخضر واليابس بدأت اليوم " صمتَ قليلاً وقال موجهاً إصبعه لي بالاتهام " أنت ستكون واحداً من المجرمين ، ستحرقون الأخضر واليابس يا كفرة ، ستحرقون الأخضر واليابس يا كفرة " !!
كلماته أشعلت في داخلي حرب أخرى وشعور لم أفهم معناه ، لكنني أستشعر صدق مقولته يا ثائر ، لذا سأهرب ، سأرحل تاركاً هذا الوطن الذي طلما دافعنا عنه سويّاً، لقد أصبحت فيه من بعدك يتيماً من جديد ولن أحتمل أن تصدق نبوءة هذا المجنون عليّ ، لقد عشنا معاً أبطالاً ولن أستبدل البطولة بالجريمة . 
ـــــــــــــــــــــــــــ


نشرت في صحيفة #الحياة_اللندنية 
بتاريخ 7 فبراير2017 
رابط القصة في الحياة