السبت، 19 سبتمبر 2015

(1) حديثُ امرأةٍ نَافِقَة



كوزيت .. يا طفلتي الحبيبة ..
تعالي يا صغيرتي واحتضنيني ..
امسحي دموعك واعتصريني يا ابنة قلبي 
فأنا اليوم أشدُّ احتياجاً لحضنك من احتياجك لحضني 
ليس العُضال الذي ألَمَّ بي فقط هو السبب 
ولكني أفتقد حناناً قديماً لم أعرف له بديلا ذات يوم
ربما أجده بين يديك أنتِ يا صغيرتي الحنونة ..

ها قد أوشكت صفحتي أن تُطوى وأنا غائرة القوى .. قليلة الحيلة .. ضعيفة النفس .. متكسرة الأجنحة  .. فقيرة إلاّ من حبي لك يا عصفورتي الصغيرة 

تعالي يا صغيرتي وخذي هذه الحفنة من أوراق الخريف الذي عشت فيه دهراً طويلا .. 
في هذه الأوراق الخريفية ستستمعين لحديث امرأة نافقة .. الموت اقتطع من عمرها الكثير .. أكثر مما فعلت الحياة 

في هذه الوريقات الرخيصة .. ستشمّين عطوراً غالية الثمن .. وستلبسين ثياباً غالية الثمن .. وستلعبين في قصر كبير .. وسترقصين الباليه على خشبات المسارح .. وستعزفين موسيقى جميلة على آلة الكمان التي تحبينها .. وستلقين بطرف عينيكِ إلى العالم من فوق برج عاجي كالأميرات .. وستترجينني أن أدعك تلعبين في الشارع كأطفال الفقراء .. لكنني أخشى عليكِ يا ابنتي من كلاب الشوارع ..
في هذه الوريقات الرخيصة .. ستعيشين في عوالم ساحرة يؤسفني أن الحظ لم يحالفني يوماً كي أمنحك بعضاً منها ..

في هذه الوريقات الصغيرة ... ستنزلين من ذلك البرج وانتِ فرحة .. تعتقدين أن الحياة في الأسفل أجمل .. لكنها ليست كذلك .!!
في الأسفل الجو خانق .. لا عطور غالية .. ولا ثياب جميلة .. ولا رقص ولاغناء ولا حتى عزف منفرد بأوتار ممزقة ..
في الأسفل معدة فارغة وبرد قارس وشمس حارقة وكلابٌ تتصارع مع البشر من أجل البقاء ..
في الأسفل سترين الأطفال يلعبون بالعقارب 
وبعضٌ من مارة الطريق المتسكعون يمرحون بالفتيات الصغيرات التائهات ..
في الأسفل يأكل الكبير الصغير 
ويضرب القوي الضعيف 
ويمحو الغالب المغلوب 
في الأسفل الناس يبتسمون سخرية من أوجاعهم 
ومن القدر الذي لم يمنحهم الفرصة كي يكونوا بشراً لهم حق الحياة كما أن عليهم حق الموت 

عذرا يا صغيرتي .. تلك وريقات حزينة حقاً 
لكنني لا أملك سواها كي اتركها لكِ من بعدي 
ربما تجدين فيها الحكمة التي لم أحظَ بها يوماً كي أتجنب التورّط مع قلبي الموجوع ..
ربما تجدين فيها المهارة التي لم أتمتع بها يوماً وأنا أقود عجلة الحياة ..
ربما تجدين فيها الحيلة التي تساعدك ذات يوم في التغلب على حظٍ عاثرٍ لم أستطع التخلص منه أبداً ..

حبيبتي كوزيت الصغيرة ..
هذه أوراق خريفية حزينة .. وقد يكون في بعض الحزن ابتسامات صغيرة .. لا تتعجلي في الحكم عليها .. فلربما كان فيها العون الذي لن أستطيع منحه إليك بعد اليوم .. 
اليوم سأتركك يا صغيرتي .. لكنك لن تكوني وحيدة أبداً .. فأنا أسكن هنا .. بين يديكِ .. في هذه الوريقات الخريفية الرخيصة الثمن .. الغالية القيمة 
هنا كتبت لك تاريخي منذ أن كنتُ وَحْياً عابِراً في مخيّلة أبي وأحلامِ أمي .. وحتى هذه اللحظات التي أطوي بها ذلك التاريخ 
فكوني لها يا صغيرتي .. صديقةً 
وكوني عليها يا أميرتي .. حريصةً 
أما أنا .. 
فقد انتهى حديثي 
فما أنا الآن 
سوى امرأة نافقة 

الوداع 


ـــــــــــــــــــــ

هناك 8 تعليقات:

  1. كلام جميل اوي
    اول قصة فعلاً كانت لازم تكون بالإسم ده
    حقيقي رائعة جداً مستني الباقي بفارغ الصبر

    ردحذف
    الردود
    1. كلمات تشجيعية كنت بحاجة لها فعلا
      شكرا جزيلا .. ويسلم مرورك الغالي
      تحياتي :)

      حذف
  2. وأجمل من أن نكتب أن نبث فى الكتابة الروح فتخرج مفعمة بالحياة حتى لو كانت حياتها مغلفة بالوجع فتحمل الألام يولد الصبر والصبر للأحياء ضياء ...
    أكملى سردك فأنا فى شوق إليه ..
    كونى بخير

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك شكرا جزيلا يا محمد على هذا الكلام وهذا التشجيع
      أصبحت أكثر لهفة أن أكمل سردي
      منور يا كبير :)

      حذف
  3. منشد الحى هو الذى اطرب
    تحياتى بجد على تفردك باسلوب يخصك --دى حاجه حلوه والله

    ردحذف
    الردود
    1. بجد وربنا يا سيد مش عارفة أقولك ايه .. ربنا يسعد قلبك زي ما أسعدتني بكلامك ده
      تسلم يا كبير :)

      حذف
  4. الفكره جميله والاسلوب رائعه

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا جزيلا .. سعيدة ان الفكرة راقت لك
      تحياتي :)

      حذف

أتدري ؟
تعليقك على هذه التدوينة بالسلب أو الإيجاب هو ما يجعل لكلام المشخصاتية قيمة :)